This page is also available in English

العنوان الرئيسي: المشكلة الأكثر إلحاحًا في اليمن ليست الحرب، بل الاقتصاد. العنوان الفرعي: تركز جهود الوكالات الدولية على الأزمة الإنسانية بدلًا من الظروف الاقتصادية التي تسببت بها.

Blog State, conflict, Economic recovery and State Fragility initiative

في 22 سبتمبر، تعهد المانحون في اختتام اجتماع الأمم المتحدة الرفيع المستوى، والذي استضافته السّويد وسويسرا والاتحاد الأوروبي معًا، بتقديم 600 مليون دولار مساعدات إضافية لخطة الأمم المتحدة للتصدي للأزمة الإنسانية في اليمن البالغ قيمتها 3.85 مليار دولار. هذه التعهدات ضرورية، لكن الأزمة الإنسانية في اليمن هي نتيجة صراعٍ اقتصاديٍ ضمني، ساهم بشكلٍ كبير في زيادة أسعار السّلع الغذائية والوقود. لذا، يجب إعطاء الأولوية لحلّ النّزاع بين الأطراف المعنية.

أنا مواطن يمني أعمل في قضايا التنمية والحوكمة في اليمن منذ ما يقرب العقدين في مراكز متعددة، حيث كنت مؤسسًا مشاركًا ومشرفًا لعدد من منظمات المجتمع المدني الرائدة، وعضوًا في الفريق الذي يقود إصلاحات السياسات العامة ضمن وزارة التخطيط والتعاون الدولي خلال عامي 2013 و2014، ووزيرًا للشباب والرياضة في عامي 2014 و2015، ومستشارًا أول للوكالات الدولية المعنية بالتنمية وبناء السّلام والاقتصاد السياسي في اليمن. كما أعمل باحثًا متمرسًا حول هشاشة الدول في جامعة أكسفورد.

عدت مؤخرًا من زيارةٍ لليمن استغرقت شهرًا، وخلال الفترة التي قضيتها هناك، تمكنت من السّفر إلى ست مدنٍ يمنية رئيسيةٍ مع زيارة لعددٍ من البلدات والقرى على طول الطريق. التقيت بقادة السلطات المحلية ورؤساء غرف التجارة والمصرفيين والتجار والسياسيين من مختلف الأطياف السّياسية في اليمن. شاركت أيضًا في مناقشات مع مئات القادة الشباب وممثلي المجتمع المدني في قاعات البلديات، حيث ناقشنا وجهات نظرهم حول الصّراع المستمر وعملية السّلام، والأولويات الإنمائية للمحافظات المختلفة، والتّحديات التي تواجه السّلطات المحلية، ورؤى الشباب اليمني للمستقبل. لكن القضية الأكثر تداولًا والتي يُنظر إليها على أنها الأكثر إلحاحًا في اليمن لم تكن الجوانب العسكرية للحرب، إنما الاقتصاد.

دائمًا ما يكون للحرب تأثيرًا مدمرًا على اقتصادات الدول، واليمن ليس استثناءً لذلك. انخفض الناتج الاقتصادي بنحو 28٪ خلال السّنة الأولى من الحرب فقط. مع تفاقم الأمور، أدى الصّراع الاقتصادي بين الحوثيين والحكومة إلى تقسيم اليمن بشكلٍ أساسي إلى منطقتين نقديتين واقتصاديتين خلال السّنوات الماضية. في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، يتم استخدام الأوراق النّقدية التي تم طباعتها قبل الحرب فقط، بينما في الأجزاء الخاضعة لسيطرة الحكومة، تنتشر الأوراق النّقدية الجديدة المطبوعة منذ عام 2016. شكّل هذا التّقسيم مشكلةً اقتصاديةً كبيرة عندما منع الحوثيون التداول بالأوراق النّقدية الجديدة في ديسمبر 2019. انهارت قيمة الريال اليمني في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة وانخفضت إلى أقل من 1100 ريال في سبتمبر الماضي، في حين ظلّت مستقرة نسبيًا في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. ارتفعت أسعار السّلع الأساسية بشكلٍ كبيرٍ في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بينما ظلّت الأجور على حالها. في غضون ذلك لم يتم دفع رواتب موظفي القطاع العام بانتظامٍ منذ سنواتٍ في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وارتفعت أسعار الوقود في ظلّ نقصٍ في المواد ونزاعٍ بين الحوثيين والحكومة على الواردات إلى ميناء الحديدة المطلّ بالبحر الأحمر.

هذه القضايا معروفة نسبيًا بين مراقبي الشأن اليمني. لكن، هنالك أزمة أخرى تشكل مصدر قلق داخل البلاد، رغم أنها أقل بروزًا، وهي ارتفاع الرسوم على التحويلات بين المناطق المختلفة في اليمن الى ١٠٠٪ من قيمة التحويل، والنقصٍ في مادة غاز الطهي، بالإضافة الى القطاع المصرفي المتعثر والذي يعني أن العديد من الودائع تم تجميدها.

ما ذكرته سابقًا ليس إلا قائمةً قصيرةً بالتحديات التي يواجهها الأقلية من اليمنيين الذين لا يزالون يكسبون ما يشبه الدخل اليومي. من السّهل أن تنسى هذه الأمور عندما تكون خارج اليمن، لكن هذه القضايا الاقتصادية ليست مسألة تقنية مجرّدة: فهي تؤثر على حياة الملايين من الناس بشكلٍ يومي، كما رأيتُ في زيارتي.

مأرب، المدينة اليمنية الصاخبة والتي أصبحت بسرعة على مدى السنوات الست الماضية مركزًا تجاريًا، بقيت قريبة بشكلٍ خطير من الخطوط الأمامية للصراع. قابلت هناك ميكانيكيًا يعمل في متجرٍ للسيارات انتقل إلى مأرب من إب، وهي محافظة زراعية في غرب اليمن. انتقل للعثور على وظيفة وإعالة أسرته، لكنه أصبح يفكر جديًا بترك وظيفته لأن راتبه لا يكفيه، مع انخفاض قيمة الريال وارتفاع كلفة تحويل الأموال إلى عائلته في إب الى نصف المبالغ المرسلة.

كانت تستغرق الرحلة من صنعاء الى مأرب قرابة السّاعتين أو الثّلاث ساعات بالسيارة، ولكنها أصبحت تحتاج الى تسع ساعات بسبب الاقتتال في الخطوط الأمامية على طول الطريق. التقيتُ خارج أحد البنوك الخاصة الرئيسية في اليمن بأرملةٍ تدعى فاطمة أخبرتني أن دخل عائلتها الوحيد هو من فوائد وديعةٍ في البنك بعد بيعهم لقطعة أرض. عايشتْ فاطمة تدني القيمة الحقيقية لمدفوعات الودائع والفوائد الخاصة بها بشكلٍ كبير بسبب انخفاض القيمة الشرائية للريال اليمني، وأصبحت تتلقى 50 بالمائة فقط من مدفوعات الفائدة على الوديعة بسبب القوانين الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في صنعاء. فاطمة، مثل مئات الآلاف من عملاء البنوك، مُنعت من سحب الـ 50 بالمائة الأخرى من الفائدة نقدًا. بدأ رجال أعمال محليون في تقديم خدمات لمساعدة المودعين على إخراج أموالهم من البنوك، لكنهم يتقاضون حوالي 70 بالمائة من قيمة الوديعة بالمقابل. إذا كان لدى شخصٍ ما مثل هذه الأرملة وديعة بقيمة مليون ريال، فإنها فعليًا تتلقى 300 ألف ريال نقدًا فقط.

لم ينم العديد من الأشخاص الذين التقيتهم في مدينة عدن السّاحلية الجنوبية لأيامٍ بسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر الذي منعهم من تشغيل وحدات التكييف أو حتى المراوح. الأمهات في تعز، وهي مدينة صناعية تقع بين صنعاء وعدن، عالقات وسط الصراع الداخلي المعقد، فهنّ غير قادرات على شراء الطعام لأطفالهن مع ارتفاع الأسعار نتيجة تقطّع الطرقات والتدني غير المسبوق للريال اليمني. كما أصبح من الصعب اعداد وجبات الطعام أو ضمان نظافة المياه بسبب النقص في الوقود ومادة غاز الطهي في صنعاء.

بالطبع، كل هذه القضايا هي أعراض للحرب الأهلية اليمنية الفوضوية والمستعصية التي دامت ما يقرب السّبع سنوات. جزءٌ كبير من أي حلّ لهذه القضايا هو إنهاء الحرب المستمرة وتوصل المجموعات المتناحرة التي تحكم اليمن وتتنافس على السّيطرة عليه إلى نوع من التسوية السّياسية. لكن مثل هذه التسوية تبدو بعيدة المنال، ولن يحلّ الانفراج السّياسي والعسكري تلقائيًا قضايا مثل انهيار الريال وانخفاض قيمته.

شعر غالبية اليمنيين الذين تحدثت إليهم أن القضايا الاقتصادية الملحّة تحتاج إلى المعالجة الآنية على وجه السّرعة كجزءٍ من تسويةٍ سياسية، بغض النظر عن المسار العسكري والسياسي لعملية السّلام. وأنا أوافق على ذلك. تقتصر الجوانب العسكرية للصّراع على جبهات محددة، لكن الصّراع الاقتصادي يؤثر على كل فردٍ في البلاد ويدفع ملايين اليمنيين إلى حافة المجاعة.

ومع ذلك، كانت الوساطة الاقتصادية غائبةً بشكلٍ ملحوظ عن النهج الدولي الذي تقوده الأمم المتحدة. عندما تم تعيين المبعوث الخاص السّابق للأمين العام مارتن غريفيث في فبراير 2018، حثّه العديد من اليمنيين على القيام بدورٍ قيادي اقتصادي وسدّ الفجوة بين إدارات البنك المركزي المتنافسة، واحدة في صنعاء والأخرى في عدن. (نقلت الحكومة المعترف بها دوليًا مقر البنك المركزي إلى عدن في سبتمبر 2016 بينما رفضت جماعة الحوثي ذلك وواصلت عمليات البنك المركزي من صنعاء).

لطالما عرّف غريفيث مهمته أنها " تركّز على الحلّ السّياسي وإنهاء النزاع وإحلال السّلام." رغم ذلك، اضطر مكتبه في النهاية إلى لعب دور الوسيط في الصّراع الاقتصادي المتزايد. في ديسمبر 2018، قاد غريفيث المفاوضات التي حالت دون نشوب معركة حول ميناء الحُديدة. تضمنت الاتفاقية التي تحمل اسم اتفاقية ستوكهولم، لغة فضفاضة تتعلق بالإدارة المشتركة لإيرادات الموانئ لدفع رواتب موظفي الدّولة. التقى الطّرفان بشكلٍ متقطع تحت رعاية الأمم المتحدة منذ 2018 لمناقشة الآلية، لكنهما لم يتمكنا من إيجاد حلٍ وسط. اتفقا في نوفمبر 2019 على صفقة بشأن واردات الوقود التي تدخل الحُديدة، لكن للأسف فشلت هذه الاتفاقية بعد بضعة أشهر. كان مشتركًا بين هذه الجهود أنها جاءت تفاعلية ومخصصة، نابعة من الموقف الأساسي الذي اتخذه المبعوث الخاص بأن على مكتبه التركيز على الحلّ السّياسي والتوسط في صفقة لإنهاء الصّراع.

كذلك، فقد ركّزت الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة على الاستجابة لعواقب الانهيار الاقتصادي، وتقديم المساعدة الغذائية والإغاثية الطارئة للسكان. لا يعني هذا التقليل من أهمية العمل الذي تقوم به الوكالات الإغاثية لإنقاذ ملايين

اليمنيين من المجاعة، لكن الصّراع الاقتصادي بين الأطراف المتنافسة أسفر عن تفاقم الانهيار الاقتصادي في اليمن، مما أدى إلى تعميق الأزمة الإنسانية، وفي كثيرٍ من الحالات، إبطال أثر المساعدة الإنسانية الطارئة.

بدأ المبعوث الخاص الجديد للأمين العام للأمم المتحدة الى اليمن، هانس غروندبرغ، عمله في الخامس من سبتمبر بعد عامين من عمله سفيرًا للاتحاد الأوروبي في اليمن. سيحتاج المبعوث الجديد إلى اتخاذ ثلاثة قرارات رئيسية.

أولًا، يجب على الأمم المتحدة، من ضمنها الدول الأعضاء والأمانة والمبعوث الخاص، إيضاح ماهية تفويض المبعوث وتمكينه من التعامل مع الصراع الاقتصادي. ليس بالضرورة أن يتم ذلك من خلال بيان أو قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، على الرغم من أن ذلك سيكون خطوةً مرحبًا بها. يمكن إنشاء منصب رفيع المستوى كنائب المبعوث مثلًا، للتعامل بشكلٍ أساسي مع المحفظة الاقتصادية وإبلاغ المبعوث الخاص مباشرة. سيحتاج المبعوث أيضًا إلى تعيين عدد كافٍ من الموظفين ذوي المهارات التقنية والمعرفة في الاقتصاد والتمويل والاقتصاد السياسي للتغلب على التحديات المعقدة، والتوسط بين الأطراف، وتحديد الحلول الممكنة تقنيًا وسياسيًا.

ثانيًا، سيحتاج غروندبرغ ومكتبه إلى تنظيم إنشاء آلية واضحة للتنسيق الدولي حول المسار الاقتصادي لعملية السّلام. كانت هذه الآلية موجودة قبل الحرب ومثلّتها مجموعة عمل أصدقاء اليمن. ستوفر هذه المجموعة بيئةً سياسيةً معتمدة، وتؤكد أهمية هذا المسار، وتتناول العديد من فجوات التّنسيق في جهود المجتمع الدولي لمعالجة أولويات المسار الاقتصادي في اليمن.

ثالثًا، على المبعوث تحديد القضايا بوضوح، والأهم من ذلك ألا تكون جزءًا مما يمكنه فعله وما يجب عليه التعامل معه. يجب أن تكون قضايا خفض التصعيد الاقتصادي على رأس جدول الأعمال، فهي قضايا ملحة تترك آثارًا سلبية كبيرة على المواطنين والاقتصاد على حد سواء. لذا، تتطلب مفاوضات واتفاقًا بين الأطراف وترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا السيادة والسلطة والشّرعية. كما تشمل هذه القضايا تنسيق السياسات النقدية والمالية، والقيود المفروضة على التجارة والبنية التحتية والطرق التجارية الرئيسية، وإدارة الإيرادات العامة لضمان دفع رواتب موظفي القطاع العام وتجنب الازدواج الضريبي.

من خلال إنشاء مسار مفاوضات اقتصادية الآن، يمكن للمبعوث أو من يخلفه الاستعداد للمفاوضات السّياسية المستقبلية عندما تكون الأبعاد الاقتصادية للحرب على جدول الأعمال. من الضّروري أن يتفق الأطراف على كيفية معالجة بعض القضايا الاقتصادية الرئيسية في مرحلة ما بعد الصراع في وقتٍ مبكر، حيث أن تأجيل الاتفاق على هذه القضايا إلى مرحلة انتقالية مؤقتة يمكن أن يعرض إنجازات عملية السّلام للخطر ويؤدي الى حلقة جديدة من الصّراع. من هنا، يجب إدخال القضايا الاقتصادية في فترة ما بعد الصراع ضمن اتفاقية السّلام منها: إدارة إيرادات الموارد الطبيعية، وإعادة توحيد المؤسسات الرئيسية، ودمج الخدمة المدنية، وإدارة عملية إعادة الإعمار بعد الصراع.

عانى اليمنيون ما فيه الكفاية خلال سبع سنواتٍ من الصراع. إلى حين تنتهي الحرب، لا ينبغي أن تصنّف معاناة الشعب اليمني الاقتصادية ضمن القضايا الجانبية. لقد كنت جزءًا من مناقشات متعددة مع العديد من الجهات الفاعلة الدولية في الأسابيع القليلة الماضية حول ما إذا كان ينبغي للمبعوث الخاص الجديد تولي زمام القيادة في جدول الأعمال الاقتصادي أم ينبغي أن تكون في مؤسسة أخرى من النّظام الدولي. وبغض النظر عمن يتولى القيادة، فإن المسؤولية الأخلاقية، إن لم تكن القانونية، تقع على عاتق المجتمع الدولي لتكريس اهتمامه الكامل للمسار الاقتصادي لعملية السّلام وضمان القيادة الفعالة في التوسط في القضايا بين الأطراف.


ملاحظة المحرر: نُشرت هذا المقالة في الأصل باللغة الإنكليزية في مجلة فورين بوليسي وأُعيد نشرها هنا بعد الإذن.